باب الأذان

قوله: ولا يجزئ الأذان قبل الوقت إلا الفجر فيصح بعد نصف الليل[1]

المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع

 قال في "الإفصاح":

"وأجمعوا[2] على أنه لا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها؛ إلا صلاة الفجر؛ فإنه يجوز أن يؤذن لها قبل دخول وقتها عند مالك [3] والشافعي [4] وأحمد [5]، وقال أبو حنيفة [6]: لا يجوز أن يؤذن لها قبل طلوع الفجر، وعن أحمد[7]: قال: أكره أن يؤذن لها قبل طلوع الفجر في شهر رمضان خاصة.

قال الوزير يحيى بن محمد[8] رحمه الله:

والذي أراه أنا: أنه لا يكره؛ للحديث المشهور الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إن بلالا يؤذن بليلٍ، فلا يمنعنكم ذلك من سحوركم" [9]، وهذا فلو كان مما يكره لم يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا إقرارا مطلقا من غير إشارة إلى ما يستدل به على الكراهة"[10].

وقال ابن رشد: "اتفق الجميع على أنه لا يؤذن للصلاة قبل وقتها[11]، ما عدا الصبح فإنهم اختلفوا فيها:

فذهب مالك [12] والشافعي [13]: إلى أنه يجوز أن يؤذن لها قبل الفجر.

ومنع ذلك أبو حنيفة[14].

وقال قوم: لا بد للصبح إذا أذان بعد الفجر؛ لأن الواجب عندهم هو ال.

وقال أبو محمد بن حزم[15]: لا بد لها من أذن قبل الوقت جاز إذا كان بينهما زمان يسير قدر ما يهبط الأول ويصعد الثاني.

والسبب في اختلافهم: أنه ورد في ذلك حديثان متعارضان:

أحدهما: الحديث المشهور الثابت: "إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت، أصبحت[16].

والثاني ما روي عن ابن عمر: أن بلالا [17].

وحديث الحجازيين أثبت، وحديث الكوفيين أيضا خرجه أبو داود وصححه كثير من أهل العلم، فذهب الناس في هذين الحديثين: إما مذهب الجمع، وإما مذهب الترجيح.

فأما من ذهب مذهب الترجيح فالحجازيون، فإنهم قالوا: حديث بلال أثبت، والمصير إليه أوجب.

وأما من ذهب مذهب الجمع فالكوفيون، وذلك أنهم قالوا: يحتمل أن يكون نداء بلال في وقت يشك فيه في طلوع الفجر؛ لأنه كان في بصره ضعف، ويكون نداء ابن أم مكتوم في وقت يتيقن فيه طلوع الفجر، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة: أنها قالت: لم يكن بين [18].

وأما من قال: إنه يجمع بينهما -أعني: أن يؤذن قبل الفجر وبعده - فعلى ظاهر ما روي من ذلك في صلاة الصبح خاصة، أعني: أنه كان يؤذن لها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم" [19].

وقال البخاري:

"باب: الأذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن - أو: ينادي - بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم، وليس أن يقول: الفجر أو الصبح، وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل: حتى يقول هكذا، وقال زهير: بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدهما عن يمينه وشماله [20]، وذكر حديث ابن عمر وعائشة: إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم [21]".

قال الحافظ:

"قوله: باب: الأذان بعد الفجر أو لا؟.

وإلى مشروعيته مطلقا ذهب الجمهور[22]، وخالف الثوري وأبو حنيفة[23] ومحمد، وإلى الاكتفاء مطلقا ذهب مالك[24] والشافعي[25] وأحمد[26] وأصحابهم.

وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث.

وقال به الغزالي في "الإحياء"[27]، وادَّعى بعضُهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدلُّ على الاكتفاء، وتُعقِّب بحديث الباب، وأُجيب بأنه مسكوت عنه فلا يدل، وعلى التَنَزُّل فمَحَلُّهُ إذا لم يَرِدْ نطق بخلافه، وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة بما يُشْعِرُ بعدم الاكتفاء، وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثهما في هذا الباب عَقِبَ حديث ابن مسعود، نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء، فإن فيه: أنه أذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام[28]، لكن في إسناده ضعف، وأيضا: فهي واقعة عَيْنٍ وكانت في سفر، ومن ثم قال القرطبي[29]: إنه مذهب واضح، غير أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه.

قال الحافظ:

فلم يَرُدَّه إلا بالعمل على قاعدة المالكية، وادَّعى بعض الحنفية[30] - كما حكاه السروجي منهم -: أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، فحَمْلُه على معناه الشرعي مُقَدَّمٌ؛ ولأن ال.

قوله: "حتى يؤذن"، في رواية الكشميهني: "حتى ينادي"، وقد أورده في الصيام بلفظ: "يؤذن"، وزاد في آخره: "فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر"، قال القاسم: لم يكن بين أذان قبل الفجر هو وقت السحور، وهو أحد الأوجه في المذهب[31]، واختاره السبكي في "شرح المنهاج" وحكى تصحيحَه عن القاضي حسين والمتولِّي، وقطع به البغوي.

وكلام ابن دقيق العيد[32] يُشعِر به، فإنه قال بعد أن حكاه: يرجح هذا بأن قوله: "إن بلالا ينادي بليل" خبر يتعلَّق به فائدة للسامعين قطعا، وذلك إذا كان وقت الأذان بلال من الفجر.

قال الحافظ:

ويقويه أيضا ما تقدم من أن الحكمة في مشروعيته التَأَهُّب لإدراك الصبح في أول وقتها، وصحَّح النووي في أكثر كتبه أن مبدأه من نصف الليل الثاني، وأجاب عن الحديث في "شرح مسلم"[33] فقال: قال العلماء: معناه: أن بلالا كان يؤذِّن ويتربص بعد [34] ونحوه، فإذا قارب طلوع الفجر نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهَّب بالطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان.

وهذا مع وضوح مخالفته لسياق الحديث يحتاج إلى دليل خاص لما صحَّحه حتى يسوغ له التأويل، ووراء ذلك أقوال أخرى معروفة في الفقهيات"[35] [50ب].

وقال الموفَّق في "المغني":

"ويُستحب أن لا يؤذن قبل الفجر، إلا أن يكون معه مؤذِّن آخر يؤذن إذا أصبح، كفعل بلال وابن أم مكتوم؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا لم يكن كذلك لم يحصل الإِعْلَام بالوقت المقصود بالأذانه في وقت واحد في الليالي كلها؛ ليعلم الناس ذلك من عادته، فيعرفوا الوقت بأذانه، فربما صلَّى بعضُ مَن سمعه الصبحَ بناء على أذانه [قبل وقتها]، ومن علم حاله لا يستفيد بأذان كثيرا تارة ويؤخره أخرى، فلا يُعلم الوقت ب"[36].

وقال البخاري:

"باب: ما يقول إذا سمع المنادي، وساق حديث أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن"[37]، وذكر حديث معاوية مختصرا[38]".

قال الحافظ:

"وفي الحديث دليل على أن لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كل جهة؛ لأن قوله: "مثل ما يقول" لا يقصد به رفع الصوت المطلوب من المؤذِّن، كذا قيل، وفيه بحث؛ لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق بين المؤذِّن والمجيب في ذلك: أن المؤذِّنَ مقصوده الإعلام فاحتاج إلى رفع الصوت، والسامع مقصوده ذِكْر الله فيكتفي بالسر أو الجهر لا مع الرفع، نعم لا يكفيه أن يجريه على خاطره من غير تَلَفُّظٍ لظاهر الأمر بالقول"[39] [51أ].

المراجع:

[1] الروض المربع ص 61.

[2] الإجماع (41)، وفتح القدير 1/177، وحاشية ابن عابدين 1/401، والشرح الصغير 1/92، وحاشية الدسوقي 1/194، وتحفة المحتاج 1/476، ونهاية المحتاج 1/419، وشرح منتهى الإرادات 1/270، وكشاف القناع 2/65 - 66.

[3] الشرح الصغير 1 / 92. وحاشية الدسوقي 1 / 194.

[4] تحفة المحتاج 1 / 476، ونهاية المحتاج 1/419.

[5] شرح منتهى الإرادات 1 / 270، وكشاف القناع 2 / 65 و66.

[6] فتح القدير 1/177، وحاشية ابن عابدين 1 / 401.

[7] شرح منتهى الإرادات 1/271، وكشاف القناع 2 / 67.

[8] هو الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي صاحب الإفصاح.

[9] رواه البخاري (621)، ومسلم (1093)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[10] الإفصاح 1/132 - 133.

[11] الإجماع (41)، وفتح القدير 1/177، وحاشية ابن عابدين 1/401، والشرح الصغير 1/92، وحاشية الدسوقي 1/194، وتحفة المحتاج 1/476، ونهاية المحتاج 1/419، وشرح منتهى الإرادات 1/270، وكشاف القناع 2/65 - 66.

[12] الشرح الصغير 1/92، وحاشية الدسوقي 1/194.

[13] تحفة المحتاج 1/476، ونهاية المحتاج 1/419.

[14] فتح القدير 1/177، وحاشية ابن عابدين 1 / 401.

[15] المحلى 2 / 159 (314).

[16] رواه البخاري (617)، ومسلم (1092)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[17] رواه أبو داود (532)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

قال ابن حجر في "فتح الباري"2/ 103: أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، موصولا مرفوعا، ورجاله ثقات حفاظ، لكن اتفق أئمة الحديث: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والأثرم، والدارقطني، على أن حماداً أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، وأن حماداً انفرد برفعه، ومع ذلك فقد وجد له متابع، أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زربي، فرواه عن أيوب موصولًا، لكن سعيد ضعيف، ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب أيضا، لكنه أعضله فلم يذكر نافعا ولا ابن عمر، وله طريق أخرى عن نافع عند الدارقطني وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضا وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيد وغيره، عن حميد بن هلال، وأخرى من طريق سعيد، عن قتادة مرسلة، ووصلها يونس عن سعيد بذكر أنس، وهذه طرق يقوي بعضها بعضا قوة ظاهرة، فلهذا - والله أعلم - استقر أن بلالا يؤذن ال.

[18] أخرجه البخاري (1919)، ومسلم (1092)، من حديث ابن عمر والقاسم بن محمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

[19] بداية المجتهد 1/98 - 99.

[20] (621). وأخرجه أيضًا مسلم (1093).

[21] (622- 623). وأخرجه أيضا مسلم (1092).

[22] الشرح الصغير 1/92، وحاشية الدسوقي 1/194، وتحفة المحتاج 1/476، ونهاية المحتاج 1/419، وشرح منتهى الإرادات 1/270، وكشاف القناع 2/65 - 66.

[23] فتح القدير 1/177، وحاشية ابن عابدين 1/401.

[24] الشرح الصغير 1/92، وحاشية الدسوقي 1/194.

[25] تحفة المحتاج 1/476، ونهاية المحتاج 1/419.

[26] شرح منتهى الإرادات 1/270، وكشاف القناع 2/65 - 66.

[27] إحياء علوم الدين 2/171.

[28] رواه أبو داود (514)، والترمذي (199)، وابن ماجه (717). قال الترمذي: إنما نعرفه من حديث الإفريقي، والإفريقي: هو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، وقال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي، ورأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث.

[29] المفهم 3/150.

[30] فتح القدير 1/177، والبحر الرائق 1/277.

[31] تحفة المحتاج 1/476، ونهاية المحتاج 1/419.

[32] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 1/208.

[33] شرح النووي على صحيح مسلم 7/204.

[34] في الأصل "الدعاء"، والمثبت من فتح الباري.

[35] فتح الباري 2/104و 106.

[36] المغني 2/65.

[37] (611). وأخرجه أيضا مسلم (383).

[38] (612).

[39] فتح الباري 2/92.