النِّداءُ العظيم

جِباهٌ خاشعةٌ، وقلوبٌ وَجِلَةٌ.. الأنظارُ كلُّها شاخصةٌ باتِّجاهٍ واحدٍ، ترقُبُ رجلًا يعرِفُهُ أهلُ هذهِ البلدةِ جيدًا، إنَّهُ بلالُ بن رباحٍ الحبشيُّ.. ها هوَ قدْ علا ظَهرَ الكَعْبَةِ..

اللهُ أكبرُ ... اللهُ أكبر

اللهُ أكبرُ ... اللهُ أكبر

أشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا الله

أشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا الله

....

من هنا أشرقَتْ شمسُ الإسلامِ، وصَدَحَ نِداءُ الحقِّ داعيًا إلى الفَلاح، حتى بلَغَ مدَى كلِماتِهِ مشارقَ الأرضِ ومغارِبَهَا... نِداءٌ خالدٌ ظلَّ على مرِّ السِّنينِ حُجَّةً صادقةً على وَحدانِيَّةِ اللهِ، وإعلانًا بصِدقِ رسولِهِ الخاتَمِ، ودليلًا هادِيًا إلى سَبيلِ الفَلَاحِ الوَحِيد...

في كلِّ أرضٍ وطِئَتها أقدامُ المسلمينَ باختلافِ ألوانِهِم وألسِنَتِهِم ترتفِعُ هذهِ الكلماتُ، لتردِّدَها القلوبُ قبلَ الألسِنَة.

في مكَّةَ.. كانَ المسلمون يستَخْفُون من عدوِّهِم بصَلاتِهِم وعباداتِهِم.. واليومَ تهتزُّ جَنَباتُ مكَّةَ بهذا النِّداءِ الكريمِ خمسَ مرَّاتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ..

قصَّة الأذان

افترضَ اللهُ على عبادِهِ المسلمينَ خمسَ صلواتٍ في اليومِ والليلةِ، وجعلَ لكلِّ صلاةٍ وقتًا معلومًا، والصلاةُ ركنُ الإسلامِ الثاني، وعُروةُ الإيمانِ الوثقى، ولأنَّها موزَّعةٌ على أوقاتٍ متفرِّقةٍ في اليوم، فلا بدَّ من سَبيلٍ لإعلامِ الناسِ بدخولِ وَقتِها وجمعِهِم لأدائِها في المساجِد..

اهتمَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ كيفَ يجمعُ الناسَ للصلاة؟ وشاوَرَ أصحابَهُ في ذَلِك، فأشارَ بعضُهُمْ برَفْعِ رايةٍ عندَ كلِّ وقتِ صَلاة، وأشارَ آخرونَ باستعمالِ بُوقٍ كالذي تَستَعْمِلُهُ اليَهُود، وفريقٌ ثالثٌ أشارَ باستعمالِ ناقُوسٍ كناقُوسِ النَّصارى، فلَمْ يُعجِبْ ذلكَ كلُّهُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم، وفي تِلكَ اللَّيلَةِ رأى الصَّحابيُّ عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ رُؤْيَا تتضمَّنُ ألفاظَ الأذانِ، فلمَّا أصبحَ أخبرَ بها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ، فاستَبْشَرَ بها صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ، وأمرَ عبدَ اللهِ بنَ زَيدٍ أنْ يُعلِّمَ الكَلِماتِ بلالًا لأنَّهُ أَنْدَى صوتًا، ومنذُ ذلكَ اليومِ تَصْدَحُ مساجدُ المسلمينَ بالأذانِ، الشَّعيرَةِ الممتدَّةِ عبرَ الزمانِ والمكانِ.

معنى الأذان

الأذانُ ليسَ مجرَّدَ إعلامٍ بدخولِ وقتِ الصلاةِ ودعوةٍ لأدائِها، بل هوَ نِداءٌ كريمٌ يُوقِظُ الإنسانَ في زِحامِ الحياةِ، يُذكِّرُهُ إنْ نسيَ بأنَّ غايةَ وجودِهِ الأُولى هي ذكرُ اللهِ وعبادتُه.

الأذانُ سِمَةٌ أصيلةٌ من سِماتِ بلادِ المسلمين.. إنَّ هذهِ الأرضَ تعلُوها كلمةُ الله، وإنَّ للرحمنِ هُنا بيوتًا ومساجدَ..

الأذانُ - على قِلَّةِ ألفاظِهِ - حَوَى مُجمَلَ معاني الإسلامِ وخُلاصةَ عقيدتِه: فـ(الله أكبر) تعني أنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ أكبرُ من كلِّ شيء.. أكبرُ منَ الدُّنيا وهُمومِها، عُظمائِها وكُبرائِها، مَباهِجِها ومَفاتِنِها، مَخاوفِها ومُعاناتِها... كلُّ ما يَشغَلُكَ ويُهِمُّك فاللهُ أكبرُ منهُ وأعظمُ، فكيفَ تُلهِيكَ الصَّغائرُ عن إجابةِ الكَبيرِ المُتعالِ؟!

م شهادةُ التَّوحيدِ.. الكلمةُ العظيمةُ التي قامَتْ بها الأرضُ والسَّماواتُ، وخُلِقَتْ لأجلِها جميعُ المخلوقاتُ، وبِها أرسلَ اللهُ تعالى رُسُلَهُ، وأنزلَ كُتُبَهُ، وشَرَعَ شرائِعَه، وعنْهَا وعنْ حُقوقِهَا يكونُ السُّؤالُ والحِسابُ بينَ يدَيهِ عزَّ وجلَّ.

ثمَّ الشَّهادةُ بأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، خاتمُ الأنبياءِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ، المبلِّغُ عنِ اللهِ رسالةَ الحقِّ، الذي افترضَ اللهُ على الإنسِ والجِنِّ تَصدِيقَهُ فيما أخْبَر، وطاعَتَهُ فيما أَمَر، واجتنابَ ما عنهُ نَهى وزَجَر، ورفعَ اللهُ لهُ ذِكرَهُ فلَمْ يَزَلِ اسمُهُ يتردَّدُ في جَنَباتِ الأرضِ إلى آخرِ الدَّهرِ، فيا لهُ من مقامٍ شَرِيف!

وفي تَكرارِ الشَّهادَتَينِ على سَمعِ المسلمِ تذكيرٌ لهُ بالغايَةِ التي يَقصِدُها، والطريقِ الذي علَيهِ أنْ يَسلُكَهُ، فالغايةُ: مَرضاةُ اللهِ والجَنَّة، والطَّريقُ: الاتِّباعُ الصادقُ لرسولِ اللهِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم.

ثم النِّداءُ إلى الصلاةِ، العبادةُ الجليلةُ، قُرَّةُ عُيونِ المؤمنينِ وراحَةُ أرواحِهِم، حينَ يَقِفُونَ بينَ يَدَيْ ربِّهِمْ يُناجُونَهُ ويسألُونَه، يَبُثُّونَهُ أشواقَهُمْ ويَستَنْزِلُونَ رَحماتِهِ ونِعَمَه، يَطْرَحونَ بينَ يدَيهِ هُمومًا أثْقَلَتْهُمْ، ويَستَغْفِرُونَهُ ممَّا اقتَرَفُوهُ منَ الآثامِ والخَطايا..

هذهُ الصَّلاةُ نَهرٌ مُتدَفِّقٍ بالماءِ العَذبِ الطَّهُورِ يغتَسِلُ فيهِ المؤمنُ خمسَ مرَّاتٍ كلَّ يومٍ حتَّى لا يَبقَى علَيهِ شيءٌ منْ أوساخِ الذُّنوبِ..

ثمَّ يُتبِعُ المؤذِّنُ نِداءَهُ إلى الصَّلاةِ بنِدائِهِ إلى الفَلاحِ، وأيُّ فلاحٍ أعظمُ من إجابَةِ داعِي اللهِ تعالَى والمُسارَعَةِ إلى طاعَتِهِ؟!

ثمَّ يُعِيدُ المؤذِّنُ التكبيرَ تأكيدًا لهذهِ الحَقيقَةِ الجَلِيلَةِ، التَّي إنْ رَسَخَتْ في قلبِ العَبدِ استَقامَتْ لهُ كلُّ مَوازِينِهِ، فعاشَ حَياةً طَيِّبَةً..

ثم خِتامُ الأذانِ بشَهادَةِ التَّوحيدِ التي مَن خَتَمَ بها حَياتَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ..

فهذهِ كَلِماتُ الأذانِ..

هيَ إيجازٌ لمعالِمِ الإسلامِ، يَطْرُقُ الأسماعَ خمسَ مرَّاتٍ في اليومِ واللَّيلَةِ، فيَستَجِيبُ لهُ المُوفَّقونَ من عِبادِ اللهِ، ويُعرِضُ عنهُ غيرُهُم..

فَضْلُ الأذان

«لَوْ كُنْتُ أُطِيقُ الأَذانَ مَعَ الخِلَافَةِ لَأَذَّنْتُ». مصنف ابن أبي شيبة"، و"السنن الكبرى" للبيهقي. قالهَا أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ عنهُ، وما رَغِبَ في ذلكَ إلَّا لِـمَا عَلِمَهُ منَ الأَجْرِ العَظِيمِ للمؤذِّنينَ والفَضلِ الكبيرِ للأذانِ.

فالمُؤذِّنونَ هُمْ أَطْولُ النَّاسِ أعناقًا يومَ القِيامَة.. ولا يَسْمَعُ مَدَى صَوتِ المُؤذِّنِ جِنُّ، وَلاَ إِنْسٌ، وَلا شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يومَ القِيامَةِ..

قالَ رسُولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ يعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّداءِ والصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يسْتَهِمُوا علَيهِ لاسْتَهَمُوا علَيْهِ». متَّفقٌ علَيه.

حَياةٌ قَصِيرَة

يُولَدُ الطِّفلُ المسلمُ فيُؤذَّنُ في أُذُنِهِ أذانٌ بلا صَلاة، ثمَّ يمضِي في دُروبِ الحَياةِ، حتَّى يأذَنَ اللهُ بانتِهائِها، فتُصَلَّى علَيهِ صلاةٌ بلا أَذانِ، وكأنَّ ذلكَ الأذانَ عندَ الوِلادَة لتِلكَ الصَّلاةِ عندَ الوَفاةِ، وما بَينَ الأذانِ والصَّلاةِ هوَ مُدَّةُ الحَياةِ القَصيرَةِ مهَما طَالَت..

أَذَانُ المَرءِ حِينَ الطِّفْلُ يَأْتِي ** وَتَأْخِيرُ الصَّلاةِ إِلَى المَماتِ

دَلِيلٌ أنَّ مَحْيَاهُ يَسِيرٌ ** كَما بَينَ الأَذانِ إلى الصَّلاةِ

والسَّعيدُ مَنِ اغتَنَمَ هذهِ الحَياةَ القَصيرةَ في طاعَةِ رَبِّهِ، وأجابَ داعِيهِ فكانَ مِنَ المُفلِحِينَ..