الأذان

إيمان، وجمال، وإعلام!

 ما أجملَ هذا النداءَ بمعانيه العظيمة، وكلماته المباركة الكريمة! لا سيما عندما تَصْدَح به الحناجر، ويتردَّد صَدَاه في الآفاق.

 وكنتُ قد أحسَسْت بسِحره الأخَّاذ، وقوة تأثيره منذ عهد الطفولة، وكلما تقدَّم بي العمرُ ازدادَ عندي هذا الشُّعور، وازداد يَقِيني بأثره العظيم في الصِّلة مع الله سبحانه، ومن ثَمَّ الارتقاء بصاحبه إلى المنازل العالية، والدَّرَجات الرفيعة.

 وسماع الأذان في الحَرَمَيْن، وفي عواصم الإسلام الكبرى: بغداد، ودِمَشق، والقاهرة، وإسطنبول - له مذاقٌ خاصٌّ، ونَكْهَةٌ خاصَّة!

 وما زلتُ أذكر موقفًا في بغداد، حصل قبل ربع قرن، وتحديدًا في يوم الثلاثاء، الثلاثين من شهر رجب، سنة 1410، كنا يومَها نستمع لمحاضرة العلَّامة الشيخ جلال الحنفيِّ رحمه الله، عن "الحرف والصناعات البغدادية"، في قصر الثقافة والفنون المُطِلِّ على ضِفَاف نهر دجلة، وانتهت المحاضرة عند الغروب، وعندما خرجْنَا فوجِئْنا برؤية لَوْحة فنِّية من جمال بغداد! كان مشهدًا من أجمل المشاهد!

 وكانت بغداد تُنصِت خاشعةً لأصوات المؤذِّنين، وكانت أمواج دجلة تردِّد أصداء ذلك النداء الرباني المَهِيب بين الكَرْخ والرصَافَة!

 لله درُّك يا بغداد! كم أنتِ جميلةٌ بماضيكِ العريق، وذكرياتِكِ الجميلة!

 لقد لبستِ ثوبَ الإسلام، ورفعتِ نداءه في جو السماء، وكنتِ عاصمةً لتعاليمه وحضارته، ومظهرًا لمَجْده وازدهاره وسلطانه.

 لقد تعرَّضتِ يومًا ما للنكبات، فلم تنكسري، وطَمِعَ فيك الطامعون، فارتدَّتْ أبصارُهم خاسئةً محسورة.

 فيا مدينةَ الجمال، ويا أمَّ الدنيا، ويا مدينة المساجد والمآذن، ويا صانعة الحضارة، ستنهضين ولو بعد حين!

 وما زلت أذْكُر شيخنا الأستاذ عبدالكريم المدرس رحمه الله تعالى المُتوفَّى سنة (1426)، فقد كان عندما يَسْمَع المؤذن في مسجد الشيخ عبدالقادر الكيلاني، بصوته الشَّجِيِّ، يَظْهر عليه التأثُّرُ الشديد، ويقول: عندما أسْمَع الأذان أكاد أموت!

 نعم؛ إن الأذان نداء الإيمان، ورمز الجمال، وفقه الإعلام الهادف النبيل.

 وبيان ذلك في الآتي:

يشتمل الأذان على كلمات عظيمة تعبِّر عن أهم شعائر الإسلام، وتَكرارُه عند أوقات الصَّلوات له أثرٌ في تنبيه المسلم ليخضع لله خضوعًا يجب مِثْلُه لكبريائه سبحانه وعَظَمتِه؛ لأنه يُصاحِب الانقلابات الكونية، والأزمنة المبارَكة التي تُعَد بمثابة أعراس الكون، ومواسمه ومباهجه.

 فما أجملَه من نداء، لا سيما وأنت تستشعر أن مَلِك الملوك يدعوك لزيارته!

 أولًا التكبير:

1-كلمة (الله أكبر): كلمة عظيمة، وحَسْبها أنها تنبه المسلم إلى عَظَمة الله وجلاله، وقدرته وسلطانه سبحانه وتعالى في كونه.
وهي تدلُّ على كبرياء الله سبحانه وتعالى، وزادَ من حُسْنها وبهائها: أنها جُعِلتْ من الأجزاء المهمة في الأذان، تَصدَح بها الحناجر، ويتردَّد صداها في الآفاق.
وقد ارتبط التكبيرُ بثلاثة من أركان الإسلام؛ فقد ارتبط بالصلاة ارتباطًا وثيقًا: دعوةً لها، وإشارةً لانتقالاتها، وتسبيحًا بعدها، كما أنه ارتبط بالصِّيام والحج.

 2- وهو يعني: أن اللهَ أكبرُ من أن نعرف كُنْهَ كبريائه وعظمته، وأكبرُ من أن يُنسَب إليه ما لا يَلِيق بجلاله، أو أكبرُ من كل شيء، وفي ذلك إشارةٌ إلى ترك كل ما أنت فيه، والإسراع في إجابة النداء.

 3- التكبير وأثره في التربية الإيمانية:

• عدد التكبيرات في الأذان: (30).

• وعددها في الإقامة: (20) عند الجمهور، و(30) عند الحنفية.

 وتكراره في هذه المواطن، بهذا العدد، مع ملاحظة معناه - له أثر إيماني في حياة المسلم.

ثانيًا: الشهادتان:

من أهمِّ أركان الإسلام شهادةُ أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فبهما يدخل الإنسان إلى حَظِيرة الإسلام، وهي شِعَارٌ من أهم شعائر هذا الدين.

وهي تُكرَّر في الأذان (10) مرات، بينما تُكرَّر في الإقامة (10) عند الحنفية؛ لأن الإقامة عندهم مثل الأذان، و(5) مرات عند الشافعية؛ لأنهم لا يكررون الشهادتين.

الشهادتان وأثرهما في التربية الإيمانية:

كنت قد تساءلتُ في نفسي عن سرِّ هذا التَّكْرار، فرأيتُ فيه تأكيدًا لمعناهما في القلب، وتجديدًا للعهد الذي قَطَعَه الإنسانُ مع الله سبحانه عندما نَطَق بهما.

وانتقال الناطق بهما من الشهادة إلى الشهود؛ بمعنى: أن يَشْهد أُلُوهية الله سبحانه مُتَجَلِّيَة في بديع صنعه المتقن، وربوبيَّته المُتَجَلِّيَة في تدبيره لهذا الكون الواسع العظيم، والشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

فما أحوَجَنا إلى هذه المعاني في حياتنا، لا سيما عند حصول الخَلَل، ووقوع الزَّلَل! 

ثالثًا: الدعوة إلى الصلاة، التي هي أفضل الأعمال، وهي خير موضوع.

وقد وصفها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((والصلاة القائمة))؛ لأن هذه الصلاة التي يُنادي إليها المُنادي، ويَدعو إليها الداعي - هي صلاة قائمة، فهي صلاة سوف تَقُوم الآن، وصلاة سوف تُقَام بإذن الله تعالى إلى أن يشاء الله تعالى.

رابعًا: الدعوة إلى الفلاح:

أليس قد قال اللهُ تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]

والفلاح يَشْمل الفلاحَ في الدنيا والآخرة؛ ففيها إشارة إلى المَعَاد والجزاء.

خامسًا: ثم كرَّر التكبير مرتين تأكيدًا لمعاني الكبرياء اللائقة بالله سبحانه صاحب الدعوة.
سادسًا: 

وخَتَم هذا النداءَ المبارَك الجميل بأعظم حقيقة في الكون، ألا وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وهي إشارةٌ إلى تَفرُّده بالخلق والأمر.

سابعًا: 

هذا هو معنى الأذان الذي يتردَّد على أسماعنا خمس مرات في اليوم والليلة، وقد وَصَفَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالدعوة التامة؛ لأنه يشتمل على معاني الإيمان والتوحيد؛ من وحدانيَّة الله تعالى، والإيمانِ بنُبُوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، والإيماءِ إلى البعث، والحثِّ على إقامةِ الصلاة التي هي أعْظَم الشعائر العَمَليَّة في الإسلام، فهي دَعْوة تامَّة لا نَقْص فيها، ولا يعتريها تغيير ولا تبديل، وهي باقية إلى يوم النُّشُور، بخِلاف دعوات الدنيا، فإنها دعوات ناقصة، وهي مُعرَّضة للفساد.

وقد قال الإمامُ القُرطُبِيُّ وغيره: "الأذان على قِلَّة ألفاظه مشتمِلٌ على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية؛ وهي تتضمن وجودَ الله عز وجل ووجوبَه وكمالَه، ثم ثنَّى بالتوحيد ونَفْيِ الشريك، ثم ثلَّثَ بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الطاعة المَخْصوصة عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تُعْرَف إلا من جِهة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الفلاح؛ وهو البقاءُ الدائم، وفيه الإشارة إلى المَعَاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا، ويَحصُل من الأذان الإعلامُ بدخول الوقت، والدعاءُ إلى الجماعة، وإظهارُ شعائر الإسلام"[1].

وقال الشيخ شبير العثمانيُّ: "واقتَضَتِ الحكمة الإلهية أن لا يكون الأذان صرف إعلام وتنبيه، بل يَضُم مع ذلك أن يكون من شعائر الدين، بحيث يكون النداء به على رؤوس الخامل والنبيه تنويهًا بالدين، ويكون قبولُه من القوم آيةَ انقيادهم لدين الله، فوَجَب أن يكون مُركَّبًا من ذكر الله، ومن الشهادتَيْن، والدعوة إلى الصلاة؛ ليكون مُصرِّحًا بما أُريدَ به"[2].

ثامنًا: 

ولهذا يُسَنُّ للمسلم إذا سمع المؤذنَ أن يُجيبه، ثم يصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو سبب هذا الخيرِ الكبير الذي أكرمَنا اللهُ سبحانه به.

فقد جاء عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتُمُ المؤذِّنَ، فقولوا مثلَ ما يقولُ، ثمَّ صلُّوا عليَّ؛ فإنَّهُ مَن صلَّى عليَّ صلاةً، صلَّى اللَّهُ عليه بِها عشْرًا، ثمَّ سلوا اللَّهَ ليَ الوسيلَةَ؛ فإنَّها منزِلةٌ في الجنَّةِ لا تنبغي إلَّا لعبدٍ من عبادِ اللَّهِ، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمن سأل ليَ الوسيلةَ، حلَّتْ لهُ الشَّفَاعةُ))[3].

تاسعًا:

 ثم يدعو بدعاء الوسيلة، وهذا نَصُّه: ((اللهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامَّة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثْهُ مقامًا محمودًا الذي وعدتَه))[4].

ومعنى الوسيلة: الدرجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله تعالى، كما فسَّرَها النبي صلى الله عليه وسلم، ويرجو أن يكون هو. 

ومعنى الفضيلة؛ أي: أَعْطِ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم الفضلَ في كل شيء، والعُلُوَّ في الدرجات؛ فهو عُلُوٌّ في الدنيا، وعُلُوٌّ في الآخرة.

ومعنى المقام المحمود: هو الذي أخبرَ اللهُ تعالى عنه بقوله: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وهو الشفاعة؛ كشفاعته في أهل المَوْقف، وشفاعته في قومٍ استحقُّوا النار أن لا يدخلوها، وشفاعته في قومٍ عُذِّبوا في النار أن يخرُجوا منها، وشفاعته في قومٍ من أهل الجنَّة أن تُرفَع درجاتهم، وشفاعته صلى الله عليه وسلم في أبي طالب من أهل النار أن يُخفَّف عنه العذاب.

عاشرًا: ما حِكمةُ الأذان؟

قال النوويُّ: "ذَكَر العلماء في حِكمة الأذان أربعةَ أشياء:

إظهار شعار الإسلام وكلمة التوحيد، والإعلام بدُخُول وقت الصلاة، وبمكانِها، والدعاء إلى الجماعة"[5].

ويُضاف إلى ما ذكر:

الخامسة: عِصْمة الدم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغِير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان؛ فإن سمع أذانًا، أمسَكَ، وإلا أَغَار، فسمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على الفِطرة))، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خَرَجْتَ من النار))، فنظروا فإذا هو راعي معزى[6].

السادسة: طَرْد الشيطان، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نودي بالصلاة، أَدْبَرَ الشيطانُ وله ضُرَاطٌ؛ حتى لا يَسْمَع الأذانَ، فإذا قُضِيَ الأذانُ أقْبَلَ...))[7].

السابعة: السلامة من تسلُّط الشيطان وغَلَبَتِه؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من ثلاثة في قرية لا يُؤذَّن ولا تُقَام فيهم الصلاةُ، إلا استَحْوَذَ عليهم الشيطانُ، فعليك بالجَمَاعة؛ فإن الذئب يأكل القاصية))[8].

المراجع

[1] انظر المفهم 4/ 100، وفتح الباري 2/ 77.

[2] فتح الملهم 3/ 134.

[3] أخرجه مسلم في صحيحه (384).

[4] رواه البخاري في صحيحه (614).

[5] شرح النووي على مسلم 4/ 77.

[6] رواه البخاري في صحيحه (2784)، ومسلم في صحيحه (382) من حديث أنس، واللفظ له.

[7] رواه البخاري في صحيحه (583) عن أبي هريرة.

[8] رواه أبو داود في سننه (2/ 250) عن أبي الدرداء، وقال عَقِبه: "قال زائدة: قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة".

ورواه الحاكم في مستدركه (1/ 211)، وابن خزيمة (2/ 371) وابن حبان (5/ 457) في صحيحهما، وقال الحاكم عَقِبه: "هذا حديث صدوق رواته، شاهد لما تقدمه، متفق على الاحتجاج برواته، إلا السائب بن حبيش، وقد عرف من مذهب زائدة أنه لا يُحدِّث إلا عن الثقات"، وأقرَّه الذهبي.

وهذا الحديث صحَّحَه النووي في المجموع (4/ 84).