بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد أصبح للمسلمين دولة وحكم اغتم النبي صلوات الله وسلامه عليه لأمرٍ مهمٍّ، واغتمَّ لغمِّه المسلمون.

كانت هناك مشكلة تؤرِّق النبي صلى الله عليه وسلم ولا بد لها من حل. 

أتعلمون عباد الله ما المشكلة؟ إنها مشكلةٌ تتكرَّر معهم خمس مرات كل يوم، مشكلة تخصُّ صلاتهم ودينهم.

ولكن أين المشكلة؛ هل هي في المسجد؟ لقد بُني المسجد من ساعة وصوله صلى الله عليه وسلم للمدينة؛ فما هي المشكلة؟

كانت المشكلة

كيف يتجمَّعون للصلاة في المسجد؟ وكيف يعرفون دخول وقت الصلاة؟ فحتى تلك الساعة لم يكن الأذان معروفًا، وكان الناس يقدِّرون لوقت الصلاة، ولهذا اغتمَّ عليه الصلاة والسلام لهذا الأمر الجَلَل، كيف وهو يتعلق بأعظم عبادةٍ للمسلمين، وأهمّ شعيرةٍ ظاهرةٍ بينهم!

فلما ظهر هذا الاهتمام على النبي الكريم، وعرف الصحابة المشكلة وهم الذين عايشوها بدأت الاقتراحات تتوالى على النبي صلى الله عليه وسلم كلٌّ يُعطي طريقةً يراها مناسبةً للتجمُّع للصلاة. فانظر رحمك الله إلى هؤلاء القوم وما أهمَّهم، وانظر إلى حرصهم وعنايتهم بأمر الصلاة، وبعض القوم اليوم يسمع هذا الأذان يصدح عاليًا فلا يحرِّك فيه مشاعرَ، ولا يأبه لهذا النداء الرباني لأعظم فرضٍ على المسلمين!.



جاء عند أبي داود وغيره بسندٍ صحيحٍ: أن اهتمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم  للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب رايةً عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا؛ فلم يعجبه ذلك. قال: فذُكِرَ له القُنْعُ يعني: الشَّبُّورَ فلم يعجبه ذلك، وقال: ((هو من أمر اليهود)). قال: فذُكِرَ له الناقوس؛ فقال: ((هو من أمر النصارى)).

فانصرف عبدالله بن زيد رضي الله عنه وهو مهتمٌّ لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  فأُرِيَ الأذان في منامه.  قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم  فأخبره؛ فقال له: يا رسول الله، إني لبَيْن نائمٍ ويقظان، إذ أتاني آتٍ فأراني الأذان. قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه  قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يومًا. قال ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم  فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبدالله بن زيد، فاستحيَيْتُ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبدالله بن زيد فافعله. قال: فأذَّن بلال. وفي روايةٍ أخرى: فإنه أندى منك صوتًا.

ومن هذا الحديث فوائد عظيمة مستقاة:

الفائدة الأولى: هي لماذا لم يشرع الأذان عن طريق الوحي؟ لماذا لم يوحى للنبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ هذا الأذان كما شرعت سائر العبادات؟

 والأجوبة على هذا قد تعدَّدت، وأجمل وأَوْجَه ما قيل في هذا: إن الأذان فيه رفعٌ لذِكْر النبي صلى الله عليه وسلم

كما قال تعالى:

﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

                                                                                                                                            [الشرح: 4]

وحتى لا يأتي مغرِضٌ أو حاقدٌ ويطعن في الأذان، ويزعم أن شهادة محمد رسول الله قد أضافها النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه، جاء هذا الأذان عبر رؤيا من صحابيَّيْن مرضيَّيْن، وجاء الإقرار عليها من الشَّرع المطهَّر.

الفائدة الثانية: في كلمات هذا الأذان المباركة، ووالله لن يهتدي المسلمون لطريقةٍ أفضل من هذه الكلمات المباركات حتى ينادون بها للصلاة، وعلى قلَّة ألفاظه فهو مشتملٌ على مسائل العقيدة؛ فبدأ بالتكبير، وهو يتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد ونفي الشَّريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ورفع ذِكْرِه.

ثم دعا إلى أعظم طاعةٍ عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تُعرَف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا.

ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل: سهولة القول وتيسّره لكل أحدٍ في كل زمان ومكان.


والفائدة الثالثة من الحديث: إثبات أمر الشورى بين المسلمين، وإعطاء أفراد المسلمين الفرصة في المشاركة وإبداء رأيهم في أمرٍ يهمّهم ويمسّ حياتهم اليومية.

ومبدأ الشورى مبدأٌ وتشريعٌ إسلاميٌّ شرعه الله لعباده، وما شرعه الله لعباده فيه الخير والبركة لهم:

﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾

                                                                                                                                               [الملك: 14]

والفرق الجوهري بينه وبين الديمقراطية المزعومة: أن هذه الديمقراطية التي هي صنيعة بشرية، أن هذا النظام قائمٌ على ما يرتضيه الناس، بغضِّ النَّظر عن رضى رب العالمين، فالأمر أمر الناس، والحكم حكمهم، بدون شريعة ربانية تحكمهم بالحق وتهيمن عليهم لمصلحتهم، ولهذا تجد من نتاج هذه الديمقراطية العفنة: سنّ القوانين التي يقشعرّ منها جلد أصحاب الفِطَر السليمة ولو كانوا من غير المسلمين.

إنك تجدهم يشرعون مثلاً لزواج الرجل بالرجل؛ لأنهم ارتضوا هذا بالتصويت! تجد منهم مَنْ يقرُّ الشذوذَ كقانونٍ يحمي الشواذِّ؛ لأنهم يريدون ذلك، بغض النظر عما إذا كان هذا يُرضي الله أم لا!!

ولهذا؛ فإن ما يصلح للبشرية هو نظام الشورى، الذي يتيح المشاركة بالرأي والوصول إلى الحلول، ولكن بشرط ألاَّ تخرج حلول المشاكل عن إطار الشريعة الغراء؛ فالشريعة هي الحاكمة والمهيمنة. ولهذا نجد في هذا الحديث: كيف رفضت بعض المشاركات لأن بها تعارضًا صارخًا مع يريده الله من المسلمين من البُعْد عن مشابهة أهل المِلَل والنِّحَل الأخرى؛ فالحكم ليس حكم الشعب كما هي الديمقراطية،

﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾

                                                                                                              [يوسف: 40].


الفائدة الرابعة من الحديث: هي اهتمام المسلم بأمر المسلمين، ومَنْ لم يهتمَّ بالمسلمين فليس منهم كما جاء الأثر بذلك؛ فعبدالله بن زيد رضي الله عنه هو نموذج للصحابة الكرام في حملهم همّ الإسلام والمسلمين.

جاء في روايةٍ أخرى للحديث قول عبدالله بن زيد رضي الله عنه: "طاف بي وأنا نائمٌ رجلٌ يحمل ناقوسًا في يده؛ فقلتُ: يا عبدالله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟! فقلتُ: ندعو به إلى الصلاة؛ قال: أفلا أدلُّك على ما هو خيرٌ من ذلك؟ فقلتُ له: بلى. قال فقال: تقول." وذكر له ألفاظ الأذان المعروفة.


هذا نموذج لاهتمام فرد من المسلمين بشأن المسلمين، فكان أن يسَّر الله على يديه هذه الشعيرة العظيمة، وكان سببًا وضعه الله عن طريقه. 

وهكذا ينبغي للمسلم أن يعيش قضايا مجتمعه وقضايا المسلمين عمومًا، يعرفها ويفكر فيها ويساهم في حلِّها، ولا يستصغِر نفسه، فعظم النيَّة الصالحة في القلوب يجعل الأمور العظام تتصاغر أمام النيَّة الصالحة، والله مطَّلعٌ على مكنون الصدور، حتى إذا ما رأى في قلب عبدٍ همًّا للإسلام والمسلمين فتح الله عليه ما كان مغلقًا، ويسَّر على يديه أعمالاً ما كان يظنُّ أنه يعملها!.

أسلم رجلٌ في مدينة الرياض، فلما أسلم وحَسُنَ إسلامه اشتعل قلبه همًّا لغير المسلمين، بعد أن ذاق حلاوة الإسلام ولذة الأنس بالله رب العالمين؛ كيف يُسلِم غيره كما أسلم هو؟ ولكن المشكلة التي تواجهه أنه ليس عنده أسلوب، وليس عنده علم يسعفه في إبلاغ الناس رسالةَ الإسلام.

 فلما زاد همُّه؛ هداه الله لطريقةٍ بسيطةٍ، أسلم على يديه بهذه الطريقة العشرات! لقد كتب على زجاج سيارته الخلفية عبارة باللغة الانجليزية: (إذا أردت أن تعرف شيئًا عن الاسلام استوقِفْني)!! فكان بعض غير المسلمين تُثير هذه العبارة فضولهم؛ فيستوقفونه بالشارع، فإذا ما ترجَّل من سيارته أخذ مجموعةً من الكتيِّبات والأشرطة باللغة الانجليزية عن الإسلام كانت معه وهي الكتب والأشرطة التي توفِّرها مكاتب الدعوة في كل المدن وبجميع اللغات الحية وأعطى مَنْ أوقفه هذه المجموعة، ثم انصرف عنه ليقرأها، وليضع هذا الرجل غير المسلم على أوَّل طريق الإسلام، فيعرض عليه الإسلام بأنصع صوره من غير تحريفٍ وتشويهٍ له!!

هذا نموذجٌ للعمل والهمِّ الذي يحمله فردٌ في قلبه، فما الهمُّ الذي تحمله أنتَ في قلبك أخي المسلم؟ هل تعيش لنفسك وأهلك فقط؛ أم هناك مساحة كبيرة في قلبك لأمر المسلمين؟

الفائدة الخامسة: أيها المسلمون في أمره عليه الصلاة والسلام بأن يؤذِّن بهذا الأذان بلال بن رباح: وقال لعبدالله بن زيد: ((قُمْ مع بلال فأَلْقِ عليه ما رأيتَ؛ فإنه أندى صوتًا منك)). 

والذي يتبادر إلى الذهن: أن الأوْلى أن يؤذِّن عبدالله بن زيد؛ لأنه هو الذي رآه، ولكن عَدَلَ عنه صلى الله عليه وسلم لبلال، وقال: ((فإنه أندى صوتًا منك))، وفي هذا: أن الأمور تُسْنَد إلى المناسب لها من حيث القدرات، ولهذا كان - صلوات ربي وسلامه عليه - يوزِّع الأعمال بين أصحابه حسب قدراتهم ومؤهلاتهم، ويضع الرجل المناسب في المكان المناسب، كلٌّ حسب ما يحسن ويصلح له، لا يكون إسناد المهامِّ والمناصب من أجل مصالح دنيوية أو مجاملات ممقوتة، أو مراعاة لجانب القرابة، كل ذلك مرفوضٌ، بل المهام تُسْنَد على حسب الكفاءة، وبلال الحبشي رضي الله عنه كان متميزًا في هذا الجانب، أوتي قوة الصوت وجماله، فهاتان الصفتان من ضمن المؤهلات المطلوبة للمؤذِّن.

وبعض الناس يملك قوةً في الصوت، ولكن صوته غير مقبول، وهكذا كان عبدالله بن زيد، ولأن الأذان وسيلةٌ دعويَّةٌ عظيمةٌ، فحينما يُسمَع الأذان من صوتٍ نديٍّ ترقُّ القلوب وتُسارع إلى بيوت الله! وكم ساهم هذا الجانب في هداية أقوامٍ كثيرين لمَّا يكون الصوت مؤثرًا في القلوب.

والفائدة السادسة: من الحديث: فضل الأذان ومكانته في دين الإسلام؛ فهو الشعيرة الظاهِرة التي تُردَّد كل يوم خمس مرات على مدار التاريخ الإسلامي، وحتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.


يقول صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا))!، ويقول أيضًا: ((لا يسمع صوته شجرٌ ولا مَدَرٌ ولا حَجَرٌ، ولا جنٌّ ولا إنسٌ إلا شهد له))، و((المؤذن يُغفَر له مدَّ صوته، ويشهد له كل رَطْبٍ ويابسٍ))، وفي روايةٍ: ((وله أجرُ مَنْ صلَّى معه)).


وهو من أكبر ما يزعج عدو البشرية الشيطان الرَّجيم

حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((إذا نُودِيَ للصلاة أدْبَر الشيطان وله ضراطٌ؛ حتى لا يسمع التَّأذين، فإذا قُضيَ النداء أقبل، حتى إذا ثُوِّبَ بالصلاة أدْبَر، حتى إذا قُضيَ التَّثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذْكُر كذا، اذْكُر كذا، لِما لم يكن يذْكُر، حتى يظلَّ الرجل لا يدري كم صلى)).

ويقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((المؤذِّنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة)).

ويقول صلى الله عليه وسلم: ((عَجِبَ ربُّكَ من راعي غنمٍ في رأس شظية الجبل، يؤذِّن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عزَّ وجلَّ: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذِّن ويقيم الصلاة، يخاف منِّي؛ قد غفرتُ لعبدي وأدخلته الجنة)).

ويقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((مَنْ أذَّن اثنتي عشرة سنة؛ وَجَبَت له الجنة، وكُتِبَ له بكل أذان ستون حسنة، وبكل إقامةٍ ثلاثون حسنة))، ويقول أيضًا: ((إذا كان الرجل بأرض قيٍّ فحانت الصلاة؛ فليتوضَّأ، فإن لم يجد ماءً فليتيمَّم، فإن أقام صلَّى معه مَلَكَاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه)).

ومما جاء في إجابة المؤذن؛ قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا سمعتم المؤذن؛ فقولوا مثل ما يقول المؤذن، ثم صلُّوا عليَّ؛ فإنه مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً؛ صلَّى الله بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو. ومَنْ سأل لي الوسيلة؛ حلَّت له الشفاعة)).

ومما يقع من خطأ من الناس في هذا الباب:

أنهم يردِّدون مع المؤذن، ثم يقولون هذا الدعاء المشهور: ((اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة))، ويغفلون عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن المشروع للمسلم بعد أن يردِّد مع المؤذن ويقول: لا إله إلا الله - أن يصلي على النبي أولاً، ثم يثني بالدعاء المشهور.

ومما يؤخذ على بعض الناس اليوم: عدم مسارعته إلى إجابة هذا النداء؛ فتجد الكثير يسمع النداء أو يعرف أن قد نودي بالصلاة، فيستمر في ما كان عليه من عمل أو جلسة، أو والعياذ بالله ربما معصية. 

فالواجب على المسلم كما هو عمل الرسول والسَّلف أن يتركوا جميع أعمالهم إذا أذَّن المؤذن، فيتهيَّأ للصلاة بالطهور، ويحضر للمسجد مبكرًا وينتظر الإقامة، مثل هذا هو الذي ينتفع بالغالب بالصلاة. 

أما الذي غالب فعله التأخُّر، فلا يأتي أو لا يتوضأ حتى تُقام الصلاة فهذا أمرٌ لا يرضاه الإنسان حتى لنفسه؛ أن يأمر مَنْ تحته بأمرٍ ويتقاعس عن تنفيذه، ثم يأتيه بعملٍ ناقصٍ مبتور!!

والفائدة السابعة من الحديث: وأرجأتُها للخطبة الثانية لأهميتها، راجيًا التدبُّر والتفكُّر، وهي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم من مِلَل الكفر، فلما عُرض عليه البُوقُ قال: ((هذا من أمر اليهود))، ولما عُرض عليه الناقوسُ قال: ((هذا من أمر النصارى))، ولما عُرض عليه النارُ قال: ((هذا من أمر المجوس)). فكان لا يرضى أن يكون في المسلمين شبهٌ أو تشبُّهٌ بغيرهم، والمتتبع لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله يجد هذا متواترًا في مواقف كثيرة مختلفة.

ففي الصلاة: أمر أحيانًا بالصلاة بالنعال مخالفةً لليهود؛ فهم لا يصلُّون في نعالهم.

وفي الصوم: أمر بالسحور مخالفةً لأهل الكتاب؛ لأنهم لا يتسحَّرون.

وفي صوم عاشوراء، بعد أن عرف أن يهود تصومه: صامه، وأمر بزيادة يومٍ قبله؛ مخالفةً لليهود.

وفي الحج: أمر بالإفاضة من مُزْدَلِفَة قبل شروق الشمس مخالفةً للمشركين؛ فهم لا ينفرون من مُزْدَلِفَة حتى تطلع الشمس.

وأمر كذلك بمخالفة الكفار في لباسهم، ومخالفتهم في حَلْق لحاهم، وأمر بإعفائها وجزِّ الشوارب، وأمر بتغيير الشَّيب إلى غير السواد مخالفةً لليهود والنصارى؛ لأنهم لا يصبغون، وفي الشَّعْر: أمر مَنْ كان له شعر بأن يفرقه ولا يسدله؛ مخالفةً لأهل الكتاب.

وفي الآداب والعادات: نهى عن التسليم بالإشارة، وقال: ((لا تسلِّموا تسليمَ اليهود))، ونهى عن بعض الجلسات؛ مخالفةً لغير المسلمين في طريقة جلستهم.

كل هذا وأكثر؛ لماذا كان يحرص عليه نبي الأمة؟

هذا السؤال أدعو الشباب خاصةً للتفكر فيه؛ لأنهم هم الذين منهم اليوم مَن انكبَّ من غير وعيٍ في تقليد غير المسلمين في اللِّباس أو الشَّعْر أو غير ذلك. 

لقد أراد الإسلام من أتباعه أن يكون لهم شخصية مستقلة، يُعرفون بها في عباداتهم وأحاديثهم ولباسهم وعاداتهم وطعامهم، تجعل من هذا المسلم له شخصية يعتز بها، ولا يستحي من إظهار هذه الشخصية خوفًا من أن يُرمى بالتخلُّف أو الرجعيَّة. 

لقد أراد المستعمِر الأمريكي اليوم أن يستعمر العالم أجمع بالعولمة الأمريكية، فيجعلون الناس في كل مكان لا يفكرون إلا بطريقتهم، ولا يأكلون إلا (الهمبرجر)، ولا يلبسون إلا (الجينز) وغيره، ولا يؤثِّثون إلا على طريقتهم، ولا ينظمون أعمالهم إلا مثلهم، ولا يتكلمون إلا لغتهم - حتى يقضوا على روح الإبداع، وحتى يقضوا على هُوِيَّة وشخصية الآخرين، ويجعلون من الآخر مَسْخًا نسي شخصيته ولم يصبح حتى مثله، فيخلقون في أوساط الشباب شخصيات هزيلة، ليس لها أهداف ولا هموم راقية.

هذا ما تجده حينما تجد بعض شبابنا وقد أعجبوا بحضارة الغرب، فأخذوا يقلِّدونهم في السيِّئات، حتى تجد من أبناء الحرمين وأحفاد أبو بكر وعمر، وحتى تجد من شباب المدينة الذين ورثوا أرض هذا البلد عن سيد الخلق وصحابته العظام - مَنْ يمشي وقد وضع الوَشْم في كل مكان في جسمه، وقد وضع السلاسل حول عنقه وفي معصمَيْه، وقد لبس لباسًا غريبًا لا تعرف له ذوق، وشعره قد فعل به الأفاعيل، ناهيك عن الاعتداء على شَعْر وجهه! ويفرح أنه يتكلم ويرطن الانجليزية ويحب التحدث بها!! فأين شخصية مثل هذه من الشخصية المسلِمة؟ لو كان رسول الله حيًّا؛ ماذا كان يقول؟ هل سيمدح هؤلاء ويقول: نعم الرجال أنتم، أم يقول: ((سُحْقًا سُحْقًا)).

فيا معاشر المسلمين:

اللهَ اللهَ في الإسلام، نريد شخصيات تُظهِر إسلامها وتعتزّ به، ولا تكون نُسَخًا مقلَّدةً للغرب، فما هكذا تُورَد الإبل.

ثم صلوا وسلموا.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأَنْوَر والجبين الأَزْهَر، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، ومَنْ تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرك والمشركين، وانصر عبادك الموحِّدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم وفِّق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، وخُذْ بنواصيهم إلى كل خير وهدى، وأصلح قلوبهم وأعمالهم يارب العالمين.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ونسألك اللهم الجنة، ونعوذ بك من النار.

اللهم ثبِّت قلوبنا على دينك، واصرفها إلى طاعتك يا رب العالمين.

اللهم لا تدعْ لنا في مقامنا هذا.

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدن وسائر بلاد المسلمين.

عباد الله:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾

                                                                                                              [النحل: 90].


فقوموا إلى صلاتكم، وساووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة؛ فأقِمِ الصَّلاة.